کد مطلب:18162 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:190

اسلوب اثارة الشبهات
تعرّضنا فی هذا الفصل لبعض الشبهات المثارة حول الوصیة، و قد ذكرنا جوابها، و هناك شبهة قدیمة ذكرها الخوارج و كثیر من المتأخرین مفادها: لو كان علی علیه السلام وصیاً لما حكّم الحكمین.

روی الذهبی عن أبی عمرو الأوزاعی: أنه لما قدم عبداللّه بن علی علی السفاح الشام و قتل بنی اُمیة، بعث إلیّ و قال: و یحك، أو لیس الأمر لنا دیانةً؟



[ صفحه 146]



قلت: كیف ذاك؟ قال: ألیس كان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أوصی لعلی؟ قلت: لو أوصی إلیه لما حكّم الحكمین، فسكت و قد اجتمع غضباً، فجعلت أتوقع رأسی یسقط بین یدی، فقال بیده هكذا: أو مأ أن أخرجوه، فخرجت. [1]

و قبل الجواب یتّضح من هذا الخبر أن عبداللّه بن علی قائد العباسیین كغیره من رجال الأُمّة یفهم أن الوصیّ هو الذی یقوم بالأمر بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله دیانةً لا شوری ولا اختیاراً. هذا مع أن الوصیة لأمیر المؤمنین علیّ علیه السلام لا تصحّح شرعیة الخلافة العباسیة بأی شكل من الأشكال كما أراد عبداللّه بن علی، لأنّ أمیر المؤمنین علیّاً علیه السلام لم یوصِ إلیهم، ولا هم ورّاثه الشرعیون.

أما الجواب فبا مكان الخوارج والأوزاعی أن یقولوا: لو كان وصیاً لما بایع الشیخین و لما حضر الشوری، و لكل ذلك جواب یثبته واقع التاریخ الذی فرض علی الوصی العمل بوصیة أخیه وعهده إلیه بالصبر عند خذلان الأمّة، فكان علیه السلام یقول: «و صبرت علی أخذ الكظم وعلی أمرّ من طعم العلقم» [2]

و قال علیه السلام: «و طفقت أرتئی بین أن أصول بیدٍ جذّاء، أو أصبر علی طخیة عمیاء، یهرم فیها الكبیر، و یشیب فیها الصغیر، و یكدح فیها مؤمن حتی یلقی ربّه، فرأیت أن الصبر علی هاتا أحجی، فصبرتُ و فی العین قذیً، و فی الحلق شَجیً، أری تراثی نهباً...» [3] .

و ذلك لأنه علیه السلام آثر بقاء الإسلام الذی نذر حیاته و خاض الغمرات لأجله، فتراه فی أحرج المواقف التی واجهته بعد البیعة یقول: «سلامة الدین



[ صفحه 147]



أحبّ إلینا من غیره» [4] .

و ثبت عنه علیه السلام بخصوص مسألة التحكیم أنه نصح أصحابه من الدخول فی هذه الحكومة، و أمرهم بالمناجزة و الثبات فی الحرب، و بیّن لهم أن رفع المصاحف خدعة و مناورة لجأ إلیها معاویة حین بان فی أصحابه الفشل و الوهن، و أحسّ فیهم الجزع من الحرب.

قال علیه السلام: «عباد اللّه، إنی أحقّ من أجاب الی كتاب اللّه، و لكن معاویة و عمرو بن العاص و ابن أبی معیط وحبیب بن مسلمة و ابن أبی سرح، لیسوا بأصحاب دین و لا قرآن، إنی أعرفُ بهم منكم، صحبتهم أطفالاً و صحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ أطفال و شرّ رجال، إنها كلمة حقّ یُراد بها باطل، وما رفعوا لكم إلّا خدیعة و مكیدة» [5] .

و لكن السواد الأعظم من أصحابه علیه السلام و كانوا زهاء عشرین ألفاً، أبوا إلّا التحكیم، و خرجوا عن الطاعة «و لا رأی لمن لا یطاع» [6] فوافقهم علیه السلام تسكیناً لشغبهم لا استصلاحاً لرأیهم، فالوصی علیه السلام لم یحكّم الحكمین، بل إن غالبیة جیشه الذین صاروا خوارج فیما بعد، هم الذین أصروا علی التحكیم.

ثم أنّهم ندموا علی خطل الرأی، ولكنّهم ارتكبوا حماقة أُخری حیث جعلوا التحكیم ذنباً اقترفه علی علیه السلام، فذكّرهم علیه السلام نهیه لهم عن قبول التحكیم قائلاً: «و قد كنت نهیتكم عن هذه الحكومة، فأبیتم علیّ إباء المخالفین، حتی



[ صفحه 148]



صرفت رأیی الی هواكم، و أنتم معاشر أخفّاء الهام، سُفهاء الأحام» [7] .

و لمّا أراد علیه السلام أن یبعث أبا موسی الی الحكومة، أتاه رجلان من الخوارج، و هما زُرعة بن البُرج الطائی، و حُر قوص بن زهیر السعدی، فدخلا علیه، فقالا له: لا حكمُ الاّ للّه، فقال علیّ: لا حكم الّا للّه، فقال له حُرْ قوص: تُبْ من خطیئتك، وارجع عن قضیّتك، و اخرج بنا الی عدوّنا نقاتلهم حتی نلقی ربّنا.

فقال لهم علیّ: قد أردتكم علی ذلك فعصیتمونی، و قد كتبنا بیننا و بینهم كتاباً، و شرطنا شروطاً، و أعطینا علیها عهودَنا و مواثیقنا، و قد قال اللّه عزّوجلّ:

(وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لَا تَنْقُضُوا الْأَیْمَانَ بَعْدَ تَوْكِیدِهَا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَیْكُمْ كَفِیلاً إِنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [8] . فقال له حُر قوص: ذلك ذنب ینبغی أن تتوب منه؛ فقال علیّ: ما هو ذنب و لكنه عَجْز من الرأی، وضعفٌ من الفعل، وقد تقدّمت إلیكم فیما كان منه، و نهیتُكم عنه.

و بهذا یتبیّن مقدار ما یمتلكه الأوزاعی من علم بشأن التحكیم، و من یدری فلعلّه كان علی رأی الخوارج المارقین.

والحمدللّه ربّ العالمین و سلامٌ علی عباده

الذین اصطفی محمّد و آله المیامین


[1] تذكرة الحفّاظ / الذهبي 1: 181 ـ دار إحياء التراث العربي.

[2] نهج البلاغة / صبحي الصالح: 68 الخطبة 26.

[3] نهج البلاغة / صبحي الصالح: 48 الخطبة 3.

[4] الأخبار الموفقيات: 581 عن محمّد بن إسحاق، شرح ابن أبي الحديد 6: 21.

[5] وقعة صفين: 489، راجع الهامش أيضاً.

[6] نهج البلاغة / صبحي الصالح: 71 ـ الخطبة 27.

[7] نهج البلاغة / صبحي الصالح: 80 / الخطبة 36.

[8] سورة النحل: 16 / 91.